أمن و عدالة

لا أحد يردع عصابات سرقة الأسلاك الكهربائية

مرة أخرى، تكون مدينة بعلبك سبّاقة في اللحاق بركب الانهيار الأمني في لبنان: جرائم سرقة جديدة تطفو على سطح المئات من سابقاتها. فبعد عقود طويلة من التسيب والاستهتارالرسمي بالمنطقة، درج في أوساط الشبان العاطلين عن العمل امتهان سرقة الأسلاك الكهربائية التابعة لمؤسسة كهرباء لبنان بشكل منتظم وموصول، كتعويض يعلّق فقراء المنطقة أمالهم عليه. وتكاثر “حراميي الكابلات” كطفيليات تقضم موارد منطقة سقطت منذ الأزل من اهتمامات دولتها.

وعندما يكون السّارق والمسروق أبناء قرية وبلدة واحدة، والتستر على الجناة و”حصر الذمة” خيارًا لا سبيل لغيره، بات التقنين وانقطاع الكهرباء القسريّ بكل وطأته، واقعًا يعري هشاشة القانون والأمن والقضاء، كما عرى السّارقون الأعمدة والمحولات الكهربائية. ومهما طالب واستنكر المواطنون، يزحف غالبًا تاريخ طويل من عجز الدولة وإهمالها واستهتارها بحقوقهم. وهذا يحفزهم للتطبيع مع شريعة التفلت التّي تحكمهم منذ عقود.ليل السرقاتاستيقظ أهالي بلدة نحلة (تبعد 5 كيلومترات عن بعلبك) نهار الجمعة 25 آذار الجاري على سرقة جديدة لأسلاك التيار الكهربائي (ما يقرب من ألفي متر يُقدر ثمنها بحوالى 5 آلاف دولار، حسب البلدية)، بعد مدها وصيانتها المتكررة. فالسّارقون يمارسون أعمالهم في ظلام الليل وفي عين العواصف التّي اشتدت في القرية وأدت إلى تراكم الثلوج وانقطاع الطرق. وهم حرموا الأهالي، وأغلبيتهم من المسنين، من الكهرباء أسابيع، وكبدوهم خسائر تقدر بالملايين، من مواد غذائية ومؤن وأجهزة كهربائية تَلُفَتْ.

إحدى السّاكنات في القرية -وهي ربّة منزل وعاملة في الجمعيات- تعرضت للسرقة مرتين. وعزفت عن ذكر اسمها، لأن المعنيين رفضوا الحديث عن الجرائم منتظرين نتائج التحقيق. وهي تروي: “استيقظنا فجر الجمعة على سرقة الأسلاك، واتصلنا بالبلدية فتواصلت مع مخفر بلدة يونين، وحضرت القوى الأمنية وفتحت تحقيقًا بالحادثة. وهي تنتشر في أرجاء القرية منذ ما يقارب السّنتين، عندما كانت قبل الأزمة سرقة المنازل أكثر شيوعًا من سرقة الأسلاك النحاسية، التي يسهر السكان أمام منازلهم لحمايتها”.

وأضافت: “عندما اتصلنا بالمخفر بعد السّرقة الثانية، حوّل شكوانا إلى مؤسسة الكهرباء التي اعتبرت أن على المتضررين الرجوع للجهات الأمنية. أما عن بعض سكان القرية فيحمون المجرمين بحجة ألا تتنازع العائلات، أو لتغطية الأحزاب. غير أن رئيس البلدية أبلغ الجهات المولجة بالتحقيق، لكن بلا جدوى. (حاولت “المدن” التواصل مع رئيس البلدية مرات إلا أنه لم يستجب).

وعلمت “المدن” من مصادر أمنية إنها تمكنت من التعرف على هويات الجناة من خلال كاميرات المراقبة، وأوقفت المدعو ح.م.ف. (21 سنة، لبناني)، وله تاريخ حافل بسرقة المنازل والأسلحة وغيرها، في حين توارى كل من م.ص.ي (50 سنة، لبناني)، و م.ف.ي. (23 سنة، لبناني) وغيرهم ممن لم تتمكن القوى الأمنية من تحديد هوياتهم بسبب تكتم عائلاتهم وغطائهم الحزبي (الثنائي الشّيعي).تواطؤ كهرباء لبنان والأهاليبلدة نحلة ليست الوحيدة التّي تتفشى فيها هذه الظاهرة المنتشرة في بعلبك وقراها المحيطة، وتمتد نحو قرى الهرمل شمالاً. ولكم هو صعبٌ حصر التجاوزات والجرائم التّي تقع يوميًا فيها: معارك العشائر المسلحة، القتل العمد بحجة الثأر أو الشّرف، وصولاً إلى سرقة الأسلاك النحاسية. ففي نهار الأحد 27 آذار حدثت سرقة أسلاك مقابل كاراج زغيب للسيارات في محيط جبانة آل الصلح ببعلبك. رفض صاحب الكاراج عرض الأشرطة المسجلة لكاميرات المراقبة، مدعيًا أنه سلمها للجهات المختصة. وأفاد أحد سكان بلدة قصرنبا -رفض ذكر اسمه- عن حوادث مماثلة في بلدته، وشملت سرقة مولدات كهربائية وأسلاك نحاسية وبطاريات مشروع طاقة شمسية لإحدى الجمعيات. وذلك في شهر آذار. ولم يقم أحد بالتبليغ من سكان البلدة. فهم يتكتمون، ويخفون الأدلة عن المخافر خشية انتقام سّارقين لا يضمن أحد بتوقيفهم. ناهيك عن التسويات العائلية والتغطيات الحزبية، نسجًا على مبدأ (حرامي من عندي وحرامي من عندك).

ومؤسسة كهرباء لبنان تتعمد تركيب الأسلاك النحاسية، بدل الألومنيوم الأقل ثمنًا والتّي لا تُفيد سّرقتها. وهذا دليل فادح على فساد هذه المؤسسة وهدرها المال العام. وتتوالى بيانات المؤسسة عن أسباب انقطاع التيار، وكل بيانٍ يحوي حجة مختلفة. وغالبًا ما يغيب السبب الرئيسي: سرقة الكابلات، فيما التغذية اليومية لا تتجاوز ساعة واحدة يوميًا.يبرر البعض انقطاع الكهرباء الدائم بربط محطة تحويل بعلبك الرئيسية بمعمل الزهراني الحراري، الذي انخفض إنتاجه إلى حوالى 70 ميغاوات. وهذا بعدما عزلت منطقة بعلبك ما يقارب السنة عن معمل دير عمار، عقب إسقاط الرياح العاتية عمود التوتر 220000 K. V. A في محلة دير نبوح بين منطقتي القبيات والهرمل.

ثمة مثل بعلبكي شائع يقول “يلي بيسرق ذيل الجمل، بيسرق الجمل كلّه”. لكن الأهالي يتسترون على المجرمين ويعانون أزمات أمنية واقتصادية واجتماعية وغذائية. سكان مفقرون اضطروا لقطع أشجارهم للتدفئة، لأنهم محرومون من الدفء والنور. وتقارع القوى الأمنية المتسترين الخائفين من الانتقام وغياب العدالة، وتقابلها تعهدات ووعود حزبية من المسؤولين الذين باشروا حملاتهم الانتخابية ببرامج يستعيدونها منذ عقود

زر الذهاب إلى الأعلى