مجتمع

حدادة من روما : أنه عصر التحولات

 

قال الأمين العام السابق للحزب الشيوعي اللبناني خالد حدادة في لقاء روما من اجل فلسطين، والذي حضره العشرات من القوى السياسية العالمية والعربية، وشخصيات اكاديمية مختصة:” إنه عصر التحولات،
في العالم، نهاية عهدٍ لم يدم أكثر من ثلاثين عاماً، عهد القطب الواحد. باتجاه عصر جديد ينهي هذه القطبية، ربما ليس باتجاه الثنائية بل باتجاهات أخرى سيحددها ميزان القوى.
ومن ضمن هذا العالم يأتي الشرق الأوسط، المنطقة العربية لتشكل مجدداً إلى جانب أوروبا، محور هذه التحولات.
وليس أوروبا والشرق الأوسط فقط، ها هي أفريقيا تغيّر معادلات الاستعمار، وتستعيد بلادها تباعاً للقرار، واضعة الامبريالية الفرنسية، سياسة واقتصاداً في زاوية الأزمة، حيث ينبري رئيسها للتنكر في لباس دون كيشوت، يحارب العالم، ويبدأ مرحلة التعويض الاقتصادي بالعودة إلى ما أسماه، هو، (اقتصاد الحرب).
وكما أفريقيا، أميركا اللاتينية، بشعوبها الفقيرة، تستكمل استقلالها السياسي والاقتصادي عن حكّام السوء، في الجارة الأكبر.
وتلعب الصين، دورها في حماية تطورها ومرحلة انتقالها إلى مجتمع المساواة.
إنه عصر التحولات
شكلت فيه عملية “طوفان الاقصى” مرحلة لامعة من مراحله، وهنا من حيث المبدأ ملاحظتان:
أولاً: إذا كان “بن غوريون” قد قال عام 1948 “إن دولتنا الآن هي مرحلة انتقالية باتجاه اسرائيل الموعودة من الفرات إلى النيل، حيث على الشعب اليهودي استكمال هذا الوعد”، فإن نهاية هذا الشعار، بدأت بتحولات مثلثة الأضلاع:
تحرير بيروت ومعظم الأراضي اللبنانية المحتلة دون مفاوضات، من قبل أطراف المقاومة المتعاقبة منذ عام 1982 حتى عام 2000، والصمود البطولي في عام 2006، حيث استطاعت مقاومة لبنان إنهاء (حلم التوسّع).
إنتفاضات الشعب الفلسطيني في كل أراضي فلسطين التاريخية، والتي أكدت تصميم هذا الشعب على التحرير، مهما غلت التضحيات.
مقاومة غزة في مراحل متعددة، 2008-2014-2020 واليوم الحلم الصهيوني بإعادة احتلالها، بالاتفاق الكامل مع الولايات المتحدة الأميركية والغرب، لإتمام مشروع الممر الاقتصادي الذي يفترض غزة مختلفة، خالية، ليس من المقاومة فقط، بل من الشعب الفلسطيني، وهذا ما تفسِّره حرب الإبادة والتهجير.
ثانياً، أتت عملية طوفان الاقصى، لتبدأ عملية إنهاء الاحتلال الصهيوني لفلسطين، بعد أن أنهت المقاومة اللبنانية والفلسطينية حلم التوسّع. وليس فقط بإنهاء الاحتلال، بل بالتصدي المسبق للمشروع الأميركي في المنطقة، والمشروع باستعادة وظيفة الكيان، وإعادة صياغتها من جديد.
لقد صاغ الغرب الاستعماري وظيفة الكيان الصهيوني، كرأس حربة في معاركه وسيطرته على المنطقة وثرواتها.
بعدما انهارت هذه الوظيفة أصبحت هي بحاجة لحماية مباشرة من قبل أميركا والغرب. وسارعت أميركا تحت مسميات المشاريع المتعاقبة للشرق الأوسط الجديد، لتحاول صياغة دور اقتصادي-سياسي، متقدم لها، عبر التطبيع مع الدويلات المصنّعة الأخرى في المنطقة. أي مع قبائل آبار النفط ودول الاستسلام.
وقبل الاسترسال في الحديث، أريد أن أقسم المداخلة إلى ثلاثة أقسام:
أ – شيء من التاريخ، ونقد لبعض المفاهيم السائدة أو المسيّدة.
ب – طوفان الاقصى – نتائج سياسية
ج – الوضع الحالي، احتمالات ومهام

1 – شيء من التاريخ
الحقيقة الأولى هي أن الحركة الصهيونية، ليست وليدة مشروع هرتزل فقط، هي وليدة الحركة الكولينيالية التي مثلها الوعد الأول، وعد نابليون لليهود وهو على أبواب عكا، ودعوتهم لمناصرته مقابل عودتهم إلى “أورشليم” ليشكلا معاً امتداداً للحضارة (القادمة معه) والتي تمثلت بسرقة الثروات والتراث والآثار من مصر إلى متاحف فلسطين، إضافة لمتاحف لندن وأوروبا.
حضارة القتل والإبادة، التي تجد أمثلتها في إبادة سكان أميركا الأصليين، وإبادة الأفارقة، ومحاولة إبادة الشعب الجزائري.
الحركة الصهيونية الرسمية بدأت مع هرتزل الذي راهن طويلاً على ألمانيا لمساعدته في “ترحيل اليهود” كما قال بعد مقابلته الامبراطور الألماني في تشرين الأول 1898، حيث طالبه بتسهيل هجرة اليهود، وأجاب الامبراطور: “سأجعلهم يغادرون” والمغادرة كانت الفكرة السائدة تجاه اليهود في جميع أنحاء أوروبا، دون تحديد وجهتها. وحتى هرتزل لم يشر إلى الهجرة إلى فلسطين إلا بعد مؤتمر بال. قبل ذلك كانت الخيارات متعددة: أوكرانيا، أوغاندا، مدغشقر، الأرجنتين وسيبيريا.
وبعد أن فشلت خطواته في دفع اليهود للهجرة، لجأ إلى البعد الديني، ورغم ذلك لم يتعد المهاجرون حتى مماته نسبة 5 في المئة من يهود العالم.
وحتى ذلك التاريخ، كانت معارضة اليهود في العالم للمشروع الصهيوني، معارضة طاغية، حيث أن المجمع “اليهودي الأميركي” أدان فكرة هرتزل والصهاينة بخلق دولة لليهود، مؤكدين أن “أميركا هي صهيوننا وهي دولتنا” بعد 12 عاماً من مؤتمر بال (1897).
بعد الحرب الأولى ووفاة هرتزل، وتحول بريطانيا إلى قيادة الامبريالية، اتجهت الحركة الصهيونية بقوة ودعم المال (عائلة روتشيلد في بريطانيا وفرنسا) من ألمانيا باتجاه بريطانيا، حيث استحصل منها وايزمن على رسالة العار الموجهة من بلفورد إلى روتشيلد.
وفي الوقت ذاته، ومع بداية صعود الحزب النازي في ألمانيا، عاد الصهاينة ليطلبوا دعمه في عملية الهجرة، وتجلى ذلك في اتفاقية (HAAVARA) الترانسفير، الموقعة بين الحركة الصهيونية العالمية والحكومة النازية في 25 آب 1933. والقاضية بتهجير 27 ألف يهودي في السنة إلى فلسطين. بعدها أتت مرحلة الهولوكوست.
وترافقت في المنطقة، خطوات مثلث التآمل الامبريالي: وعد بلفور، اتفاقية سايكس – بيكو، والسيطرة على البترول، المكتشف حديثاً والذي أصبح كما قال كليمونصو: السلاح الأساسي في الحروب.
واعتمدت الحركة الصهيونية منذ البداية، أساليب من احتضنها من قوى الامبريالية، أساليب الترويع والابادة والتهجير بالاعتماد على العصابات الصهيونية، أرغون وهاغانا وشتيرن، والتي توحدت تحت اسم الجيش فيما بعد، وارتكبت كعصابات، ومن ثمة كجيش رسمي، مئات المجازر في فلسطين ولبنان ومصر وسوريا.
الهدف المباشر، إقامة الدولة على مساحة فلسطين، ومن بعد توسيعها كما وعد بن غوريون، وأظهرته خرائط خزنة روتشيلد (وعد الأرض الكاملة من الفرات إلى النيل) والمحتوية لفلسطين و ومصر وسوريا والعراق والأردن ولبنان، وقسم كبير من السعودية.
وبشكل سريع، لا بدّ من تسجيل نقدي لثلاثة مفاهيم:
الأول، تأكيد أن الصهيونية هي وليدة الامبريالية وربيبتها، من نابوليون إلى ألمانيا ومن ثم بريطانيا واليوم الولايات المتحدة الأميركية، ممولتها ومسلّحتها الأساسية. وبالمقابل التأكيد بأن الموقف من الامبريالية يستدعي من كل القوى الداعية لمواجهتها، أن تكون إلى جانب قضية فلسطين وشعبها، فإذا كانت الامبريالية عدونا المشترك، فلابد أن تكون فلسطين بوصلتنا، فلسطين يعني كل فلسطين.
الثاني، مفهوم العداء للسامية، هو اختراع صهيوني وغربي. فالسامية تعني، حتى في المفاهيم الدينية، أحفاد سام بن نوح، وهم العرب والكنعانيون ويهود المشرق.
وإذا كانت الصهيونية، وهي كذلك، وليدة المشاريع الاستعمارية الغربية، فإن أعداء السامية، هم من يضطهدون المشرق، والصهيونية بما هي انتاج امبريالي، هي العدو الاساسي للسامية، وهي رديف النازية والحركات الفاشية والعنصرية في هذا الإطار.
المفهوم الثالث، هو مفهوم (الشعب اليهودي) هذا المفهوم رجعي بأساسه، وكما قال لينين: “هو مفهوم رجعي وعنصري يجب التصدي له، فلا وجود لشعب يهودي، هنالك يهود في العالم موزعين على كل الدول”.
وما (اسرائيل) إلا دولة تم تصنيعها بسبب غلبة قوى الامبريالية على الأمم المتحدة عام 1947. ومن هذا المنطلق، يمكننا إدانة – متأخرة لعقود – للقرار الخاطئ الذي اتخذه الاتحاد السوفياتي عام 1947، إلى جانب قوى الاستعمار. ومهما كانت التبريرات، هو قرار خرج عن كونه خياراً لينينياً، وجيد أن هذه الفترة لم تمتد إلا لسنتين.

2 – طوفان الاقصى ودروسه
على المستوى العسكري، لن أفصِّل، فهنالك العشرات، بل المئات من الدراسات التي تركز على بطولة الشعب الفلسطيني في غزة، ومقاومته، غزّة الصامدة باللحم الحي، والأسلحة الخفيفة لسبعة أشهر حتى الآن، أمام أقوى جيش في المنطقة، بل أمام جيوش الأطلسي، وحاملات طائراته ومخازن أسلحته من واشنطن إلى باريس وبرلين ولندن، إلى فلسطين المحتلة.
أما على المستوى السياسي – الاستراتيجي، وهذا الأهم:
أ – أكّد طوفان الاقصى، الانتهاء الفعلي للكيان الصهيوني كرأس حربة للامبريالية، وأكرر أنه اصبح بحاجة لحمايتها وعبئاً عليها، عوض قيامه بالدفاع عنها، وبالتالي فقط وزيفته الاساسية، وهذا ما يشكل استكمالا للانتصارات السابقة التي حققتها المقاومة من لبنان إلى فلسطين.
ب – فضحت هذه المعركة التي لم تبدا في 7 أكتوبر، بل تمتد إلى 75 عاماً من المجازر وحروب الابادة، فضحت تآمر الأنظمة العربية الرسمية، وأكدت خيانتها الممتدة من عام 1948 حتى الآن.
ج – أجبرت الامبريالية الأميركية والصهاينة على فضح خطة الابادة والتهجير، ليس في غزة فقط، بل في الضفة وفي كل أنحاء فلسطين، وما دور قطعان المستوطنين المسلحين بقرار حكومي صهيوني إلا تأكيد على ذلك.
د – فضحت كل اتفاقيات التطبيع والاستسلام مع العدو، وبشكل خاص، استكملت القضاء على (وهم اوسلو) وأول ما برز هو قيام العدو بدفن شعار الدولتين، فأية دولة فلسطينية ستقوم، وعدد المستوطنين منذ اتفاقيات اوسلو ارتفع من 150 ألف، إلى ما يقارب المليون، مسلحون وبأحدث الاسلحة، ليست حكومة نتنياهو فقط، بل كل الحكومات المتتالية، ما يسمى باليسار أو اليمين، وأوضحت أن لا حل دائم إلا قيام الدولة الفلسطينية الواحدة على كل فلسطين التاريخية.
ه – إن طوفان الاقصى، بعكس ما يطرحه الاعلام الغربي، قدّم المقاومة بوجهها الوطني الجامع، ولم يحصرها بخيار ايديولوجي ديني محدد. فالمقاومة، رغم موازين القوى داخلها، متنوعة التكوين، إسلامية كانت أو يسارية أو وطنية. هي مقاومة شعب بأكمله.
والمواقف المختلفة في العالم العربي، أثبتت أن هنالك اسلام مقاوم (إيران، لبنان، اليمن…) وإسلام مطبع، بل متآمر (أردوغان، داعش، الجماعات الاسلامية الصامتة) كما أن هنالك يسار مقاوم، وهناك يسار ساكت عن التطبيع، ويسار يساوي بين الضحية والجلاد.
و – المعركة أثبتت الطابع الطبقي لقضية فلسطين، فهي قضية كل الشرفاء في العالم وفقرائه، من دول في افريقيا واميركا اللاتينية، إلى شوارع في أوروبا والعالم.
هي معركة الفقراء ضد G7 وما يمثل من قوى امبريالية.
ز – أثبتت طوفان الاقصى، وأعمال الابادة والتجويع، انتهاء دور الامم المتحدة والمنظمات العالمية، فبضعها عاجز، وبعضها متواطئ.
3 – في الاستنتاج والمهام
إن “طوفان الاقصى”، والرد الايراني على اعتداءات اسرائيل، الذي يستكمل بمفعوله طوفان الاقصى، خلقا وقائع جديدة في المنطقة والعالم.
أولها، أعاد للقضية الفلسطينية، دورها كبوصلة للمواجهة مع المشروع الامبريالي. فمن يريد مواجهة هذا المشروع، لا يمكنه أن يبقى محايداً تجاه قضية فلسطين.
أصبح الخيار محدداً، إما أن تكون مع السنوار والسعدات ومروان البرغوثي، أو مع نتنياهو وبن غفير والمشروع الصهيوني. إما ان تكون إلى جانب مقاومة لبنان، إسلامية ووطنية، ومقاومة اليمن والعراق، أو تكون مع عمالة وتواطؤ أنظمة العرب.
إما ان تكون إلى جانب ايران وكوبا وفنزويلا واميركا اللاتينية وافريقيا، وشباب وشابات أوروبا المنتفضين على حكوماتهم، أو أن تكون مع حكومات الامبريالية.
أصبح المجال مفتوحاً، لنحدد نحن معايير نظرية للمقاومة من أجل التحرير والتغيير، ونعرِّف أسسها المفاهيمية، ألا ننتظر من الإعلام الغربي والإعلام العربي المرتهن تحديد هذه المفاهيم، وأساس هذه المعايير:
أ – مواجهة الامبريالية ومشاريعها
ب – دعم مقاومة شعب فلسطين، بغض النظر عن تكوينها، من أجل فلسطين الديمقراطية الحرّة الموحّدة.
ج – تحركات فعلية وجماهيرية لتغيير الأنظمة المتواطئة مع العدو ومع المشروع الأميركي في المنطقة.
د – التأكيد على أنها معركة الفقراء ضد الاستغلال، بكل مستوياته، المحلية والعالمية.
ه – التحالف مع كل القوى المتصدية للإصطفاف الامبريالي في العالم، وتطوير العلاقات معها، من إيران إلى الصين وروسيا، وصولاً إلى أفريقيا وأميركا اللاتينية.
و – بانهيار المنظمات العالمية، ووصول نظام القطب الواحد إلى نهايته، ضرورة التفكير ببناء منظمات أممية شعبية بديلة ومواجهة للامبريالية ومتضامنة مع الشعوب المضطهدة.

الحرية للأسرى والمعتقلين في سجون الاحتلال الصهيوني،
وبمقدمتهم أحمد السعدات ومروان البرغوثي وعبد الله البرغوثي،
وفي سجون الامبريالية ومفي مقدمهم جورج عبد الله

المجد للشهداء والشفاء للجرحى
غزة تنتصر
وفلسطين حرة حرة

د. خالد حدادة
الأمين العام السابق للحزب الشيوعي اللبناني

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »